انتقاء الأخبار... حين يصبح الإعلام أداة سلطة لا مرآة واقع
أكدت هرمينة هورداد أن وسائل الإعلام يجب أن تلتزم بالأخلاقيات المهنية وتلبي احتياجات المعلومات للأشخاص المحاصرين في جبهات متعددة من الحرب والقمع.
شهلا محمدي
مركز الأخبار ـ في ظل الحروب والأزمات، يُولى اهتمام أقل لتمثيلها الإعلامي مثلما حدث خلال الحرب الإيرانية الإسرائيلية الأخيرة، حيث يقع على عاتق وسائل الإعلام نقل الحقائق بطريقة أخلاقية وإنسانية، وتلبية احتياجات الناس المعلوماتية والنفسية خاصة أنهم يواجهون حربين في آنٍ واحد، حرب العقوبات العابرة للحدود، والحرب الداخلية المتمثلة في قمع الجمهورية الإسلامية، وقد أتاح تصاعد التوترات للنظام فرصة لزيادة الضغط على الشعب.
في هذا السياق، أجرت وكالتنا حوار مع هرمینة هورداد، المتخصصة في الفلسفة السياسية وحقوق الإنسان، لمناقشة آخر التطورات، ودور الإعلام، ووضع الناس العالقين بين واقعَي الحرب والقمع.
في الأزمات والحروب، تواجه وسائل الإعلام قضيتين أساسيتين، القوانين الإعلامية وأخلاقيات المهنة في نقل المعلومات، برأيكم، كيف غطت وسائل الإعلام الحرب بين إيران والقوات الإسرائيلية؟ وهل هذه التغطيات تتماشى مع أخلاقيات الإعلام والقانون الدولي في زمن الحرب؟
يواجه الشعب الإيراني في الوقت نفسه قمع الجمهورية الإسلامية وحرباً مفروضة من القوات الإسرائيلية والولايات المتحدة، رغم أنه لا دور له فيها، لكنه يتعرض للأذى. في هذه الأزمة، الأولوية هي أمن الناس، ودور الإعلام أصبح أكثر حيوية من أي وقت مضى، لأنه يجب أن يكون صلة الوصل بين الناس المحرومين من الوصول إلى المعلومات الحرة. الإعلام المحلي صامت، والإعلام العالمي منشغل أكثر بالسرديات السياسية، وهذا الفراغ تحوّل إلى سلاح ضد الناس.
فقدت وسائل الإعلام التابعة للجمهورية الإسلامية، بما في ذلك الصحافة والتلفزيون الرسمي، ثقة الناس منذ زمن بعيد. انعدام الثقة هذا متجذر في بنية النظام الحاكم، وليس فقط في أداء الإعلام، فالتقارير غالباً ما تكون مشوهة وتُستخدم لإضفاء الشرعية على السلطة، مما دفع الناس إلى اللجوء إلى مصادر بديلة، رغم أن الحجب يجعل الوصول إليها صعباً.
الهوة المعلوماتية بين الناس والسلطة تتعمق يوماً بعد يوم، لأن المجتمع لم يعد يصدق الروايات الرسمية. مع بداية الحرب الأخيرة في الثالث عشر من حزيران الجاري، تصاعدت الرقابة، فبعض وسائل الإعلام المستقلة لا تزال نشطة، لكن بعض وسائل الإعلام الفارسية السائدة أيضاً وقعت في فخ الفساد والانحياز.
يجب أن يكون الإعلام ناقلاً للرسالة ومضيئاً للطريق، وأن يعكس الحقائق بشفافية وفقاً لأخلاقيات المهنة، لكن الإعلام السائد اليوم مرتبط بمصالح الجهات والدول الممولة، وليس مستقلاً وصادقاً، وهذا الأداء يتعارض مع أخلاقيات الإعلام والمعايير الدولية، ويقوض مصداقية الإعلام.
وفي ظل كون الشعب الإيراني ضحية لحرب لا دور له فيها، وقد استُخدم مراراً كدروع بشرية، تصبح مسؤولية الإعلام أثقل، لذلك يجب نشر كل خبر بدقة ومسؤولية، فالإعلام يجب أن يكون دليلاً، لا أداة تضليل.
فالناس يتخذون قراراتهم بناءً على المعلومات الإعلامية، وتشويه الحقيقة أو حجبها خيانة للناس وله تأثير مباشر على حياتهم. يجب على الصحفيين المهنيين أن يقاوموا التحول إلى أبواق للسلطة، خاصة تلك التي تتعارض مع مصالح الناس. الإعلام الحقيقي يجب أن يكون صادقاً، محايداً، ومخلصاً للحقيقة.
ماذا يحدث للوعي العام عندما تفشل وسائل الإعلام في أداء وظيفتها على النحو الأمثل، وتُنشر أخبار كاذبة أو مُحرّفة؟ وكيف يمكن الحفاظ على الثقة العامة والدفع نحو العدالة والعمل الجماعي؟
العديد من وسائل الإعلام السائدة اليوم لا تؤدي مهامها بشكل صحيح. بالطبع، ليست كلها متشابهة فبعضها يعمل باحترافية واستقلال، ولكن جزءاً كبيراً منها يتعمد انتقاء الأخبار، لا لضرورات مهنية، بل بناءً على أجندات سياسية ومالية. إنهم لا يغطّون الكوارث، الإعدامات، أو بعض الروايات، إلا إذا كانت تتماشى مع أولوياتهم. هذا الانحياز لا يُضحّي بالحقيقة فقط، بل يُضعف الثقة العامة كذلك. الوسيلة الإعلامية التي تدّعي دعم الحريات، لا يجوز لها أن تُبرز صوتاً واحداً وتُقصي باقي الأصوات.
على سبيل المثال، يمكن الإشارة إلى حادثة انقلاب حافلة الفتيات في مدينة كرمان، لقد وصلتني معلومات مباشرة من إحدى العائلات، لكن وسائل الإعلام الرئيسية لم تأخذها على محمل الجد. لو وقعت هذه المأساة في منطقة مختلفة أو بما يتماشى مع أجنداتهم، لربما تصرفوا بشكل مختلف.
الرقابة الانتقائية ليست مجرد حذف للخبر، بل هي حرمان الناس من حقهم في المعرفة. يجب أن يعرف المجتمع ما يحدث، ولماذا يُحاكم أشخاص، أو لماذا تقع أحداث عنيفة مثل الإعدامات. المعرفة هي حق الناس لضمان حياتهم وأمنهم وحريتهم. عندما تُخفى الأخبار أو تُبالغ فيها، يتأثر أمن الناس بشكل مباشر، وهذا الإهمال ليس مجرد خطأ مهني، بل هو خيانة تحدث عبر تضخيم صوت أحادي. الإعلام اليوم، عوضاً عن خدمة الحقيقة، أصبح أداة في يد أصحاب النفوذ.
في ظل هذه الأوضاع الحرجة، حيث تُنتهك حقوق الناس ويُقابل حتى مجرد طرحها بردود فعل سلبية، يبقى السؤال: كيف يمكن للناس أن يعارضوا الحرب المفروضة عليهم، وفي الوقت ذاته يقاوموا القمع الداخلي؟
الناس يقاتلون على جبهات متعددة ضد القمع الداخلي، والاختناق السياسي، والصراعات الاجتماعية، فالنظام يستخدم المحاكم الصورية لإسكات الأصوات، ويبرر ممارساته من خلال اتهامات لا أساس لها. بهذا الأسلوب، يساعد النظام فعلياً التدخلات الخارجية كإسرائيل وأمريكا، ويصنع الأعداء لتبرير قمعه.
لكن الناس يدركون زيف هذه المخاوف وأن الطريق إلى كسر دائرة العنف هو المقاومة. لذا، هم يواجهون الإعدامات والقمع بشجاعة.
من خلال إضرابات سائقي الشاحنات، وتجمعات المتقاعدين، واحتجاجات الممرضين والمعلمين، يظهر الشعب تضامنه ووعيه الجماعي. هذه التحركات باتت تشكل جبهة وطنية ضد القمع، واليوم أكثر من أي وقت مضى، على الجميع اتخاذ موقف واضح إما الانضمام إلى الجبهة الشعبية أو تأسيس تشكيل جديد يكسر الصمت.
نحن بحاجة إلى "لا" كبيرة لا للجمهورية الإسلامية، ولا للصمت. الاتحاد الشعبي هو السبيل الوحيد لإضعاف آلة القمع. هناك من ينتظر حكم الإعدام، وإن صمتنا اليوم، فغداً قد يكون دورنا. حان الوقت لتجاوز الشلل النفسي، والتجمع، ورفع الصوت: لا للجمهورية الإسلامية، لا للصمت.
علينا أن نتخلى عن الاعتقاد الخاطئ بإمكانية اختيار "بكج سياسي" جاهز يحتوي على كل شيء، فهذه النظرة تجعلنا مستهلكين سلبيين وتغلق باب المشاركة الفعلية.
يُبنى المستقبل من خلال المشاركة الجماعية المبنية على التخصص والمسؤولية عبر وصفات معدّة مسبقاً. نحن المبادرون إلى إعادة البناء، ولسنا في انتظار منقذين من النخبة أو "بكجات" سحرية. لقد أظهرت تجارب الحركات أن الثقة بالحلول الجاهزة تعرقل اتخاذ القرار الحقيقي.
نحن بحاجة إلى هيكلية يكون فيها، للشعب دور فعّال وحقيقي، الأخلاق السياسية معياراً للرقابة المستمرة، آليات واضحة للخروج من السلطة، ولا أحد فوق مساءلة الشعب.
نحن لا ننتظر مخلصاً أو معجزة، بل نحن البادئون بإعادة بناء جماعي يرتكز على مشاركة الناس.